العولمة






بسم الله الرحمن الرحيم


العولمة وأثرها على الهوية




*
تعريف العولمة


العولمة كظاهرة بدأ انطلاقها في بداية هذا القرن الهجري في الثمانينات الميلادي وهي مرتبطة بثلاث أحداث كبرى سياسية،وتقنية، واقتصادية.

1-
السياسية: حيث انتهاء المواجهة بين الشرق والغرب، وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشرقي.


2-
التقنية: وهي الثورة المعلوماتية، حيث شهدت هذه الفترة طفرة تقنية هائلة في مجال الاتصالات الإلكترونية وانتقال المعلومات، حيث ساهمت مساهمة فعالة في حدوث العولمة. .

3-
الاقتصادية: وظهور منظمة التجارة العالمية عام 1995م، ومقرها جنيف لتخلف الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية (الجات) وكتتويج لانتشار مذهب التبادل الحر واقتصاد السوق الذي بات أيديولوجية تسيطر على العالم شرقه وغربه، وهو ما وافق عليه قادة العالم عام 1998م، أثناء مشاركتهم في الاحتفال بمرور 50 عاماً على الجات(1)، وظهور الشركات متعددة الجنسيات.

لم توجد العولمة في السابق مع سيطرة أمم عسكرياً واقتصادياً كالحضارة اليونانية والرومانية والإسلامية وبريطانيا ولكن في الوقت الحاضر اجتمع سيطرة القطب الواحد مع التقدم المذهل في الاتصالات والمواصلات ..


تختلف تعاريف العولمة بين المفكرين حيث يركز كثير من الكتاب على الجانب الاقتصادي وينبه على خطورتها من هذا الجانب بزيادة الفقر وتكدس الأموال وخدمة الشركات الكبيرة واضمحلال الصغرى أو إيجابيتها من انفتاح الأسواق وزوال الحواجز عن الأيدي العاملة، ومنهم من يبشر بها باعتبارها تحرر من الدول المغلقة وانطلاق نحو العالمية والتقدم.
ومنهم من يركز على الجانب الثقافي وأضراره، ومنهم من يأخذها بمفهومها الشامل، وهذا الاختلاف بسبب ذكر كل واحد جانباً من الموضوع وهو يذكرنا بمثل الذين دخلوا على الفيل في غرفة مظلمة فكل منهم عرفه بما لمسه منه.


ومع اختلاف تعريفات العولمة إلا أنها تأخذ عدة ظواهر:

-
التقدم الهائل في وسائل الاتصال، لا سيما ظهور الإنترنت والقنوات الفضائية.

-
هيمنة الغرب لا سيما أمريكا وسقوط المعسكر الشرقي، وتأخذ هذه الهيمنة أبعاداً عسكرية واقتصادية وثقافية وسياسية.

-
بروز المؤتمرات المؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسيات.


وهذه التعريفات تتباين في درجة قبولها وخطورتها، حيث نجد أن أكثر المفكرين المسلمين ينبه على خطورتها مع التركيز على الاقتصادي كما فعل د. سعد البازعي حيث يقول: ”العولمة هي الاستعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيماً تدعم انتشار تلك المصالح وترسخها، إنها الاستعمار بلا هيمنة سياسية مباشرة أو مخالب عسكرية واضحة. إنها بكل بساطة عملية يدفعها الجشع الإنساني للهيمنة على الاقتصادات المحلية والأسواق وربطها بأنظمة أكبر والحصول على أكبر قدر من المستهلكين، وإذا كان البحث عن الأسواق والسعي للتسويق مطلباً إنسانياً قديماً وحيوياً ومشروعاً، فإن ما يحدث هنا يختلف في أنه بحث يمارس منافسة غير متكافئة وربما غير شريفة من ناحية ويؤدي من ناحية أخرى إلى إضعاف كل ما قد يقف في طريقه من قيم وممارسات اقتصادية وثقافية“(2).

بينما يركز آخرين على الجانب الثقافي وربما سموها اختراقاً كما فعل الدكتور محمد عابد الجابري حيث قال: ”أن العولمة تعني: نفي الآخر، وإحلال الاختراق الثقافي .. والهيمنة، وفرض نمط واحد للاستهلاك والسلوك“(3).

أو فرض النموذج كما يصفها الدكتور محمد سمير المنير حيث يقول: ”فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماطه واستهلاكه على الآخرين، وإذا كان الفرنسيون يرون في العولمة صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغــة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي .. “(4).

أو غزو شامل كما اعتبرها أسعد السحمراني حيث قال: إن العولمة/الأمركة غزو ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي يستهدف الدين والقيم والفضائل والهوية، كل ذلك يعملون له باسم العولمة وحقوق الإنسان(5).


والتصريح بأنها أمركة تصريح صحيح باعتبارها المؤثر الأقوى وقد أكد على أن جوهر العولمة هو النمط الأمريكي، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية، وأنماط العيش والسلوك الأمريكي(6).

وربما تكون صهينة لا سيما واستثمار اليهود الذين يقودون الغرب وأمريكا تحديداً للعولمة للسيطرة على العالم من الاستعمار إلى الاستحمار (ركوب الأمم واستغلالها دون القضاء عليها) (7).

بينما نجد البعض يجعلها مجرد انتماء عالمياً، كما عرفها الدكتور صبري عبدالله حيث قال: ”بأنها ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيه للعالم كله، عبر الحدود السياسية للدول“(8).

بل إن البعض يجعل العولمة الثقافية مجرد خدعة لإلهاء الشعوب عن الغزو والمصالح الاقتصادية، حيث يقول حسن حنفي ”يتم تصدير صراعات الحضارات للنطق بما كان مسكوتاً عنه سلفاً ولتحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة، ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح والثروات، وإلهاء الشعوب الهامشية بثقافاتها التقليدية، بينما حضارات المركز تجمع الأسواق، وتتنافس في فائض النتاج عوداً إلى النغمة القديمة، مادية الغرب وروحانية الشرق، الحضارة اليهودية المسيحية، في مواجهة الحضارة الإسلامية البوذية الكنفوشوسية“(9).

ونجد سمير الطرابلسي ينبه إلى خطورة العولمة التي تشكلها الولايات المتحدة بجميع جوانبها المهمة حيث يعرفها بأنها الرؤية الاستراتيجية لقوى الرأسمالية العالمية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والرامية إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها، وأطماعها، سائرة نحو ذلك الهدف على ثلاثة مسارات متوازية: الأول: اقتصادي وغايته ضغط العالم في سوق رأسمالية واحدة، يحكمها نظام اقتصادي واحد، وتوجه القوى الرأسمالية العالمية (الدول الصناعية السبع والشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الاقتصادية العالمية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية) وتضبط حركته قوانين السوق وآلياته. والثاني: سياسي ويهدف إلى إعادة بناء هيكليات أقطار العالم السياسية في صيغ تكرس الشرذمة والتشتت الإنسانيين، وتفكك الأوطان والقوميات إلى كيانات هزيلة قائمة على نزعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية، بغية سلب أمم العالم وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي لا تستقر إلا بالتشتت الإنساني. وأخيراً المسار الثقافي الذي يهدف إلى تقويض البنى الثقافية والحضارية لأمم العالم، بغية اكتساح العالم بثقافة السوق التي تتوجه إلى الحواس والغرائز، وتشل العقل والإرادة، وتشيع الإحباط والخضوع، وتشهد منطقتنا العربية ترجمة لهذه التوجهات من خلال مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية(10).



وفي تقديري أن هذا أفضل تعريفات العولمة التي وقفت عليها، وبالإمكان القول أن العولمة:- وصف لظواهر متعددة يجمعها جعل العالم متقارباً مثل التقدم المذهل في وسائل الاتصال والمواصلات والفضائيات والإنترنت، والانفتاح المعلوماتي، مع سلطة القطب الواحد (أمريكا بقيادة صهيونية) الذي يسعى لعولمة اقتصادية وعسكرية تحقق مصالحه كما يسعى لعولمة ثقافية بفرض قيمه وثقافته (وهذه النقطة هي ما تعنينا) حول عولمة الثقافة المهدرة للهوية.
العولمة نموذج من مخططات الاستعمار التي نبه عنها وكتب فيها، الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وهذا قبل ظهور مصطلح العولمة، وقد كتب يقول: غوليامو فرير الفيلسوف الكاتب الإيطالي الشهير في علم الاجتماع والتاريخ لا في إيطاليا فحسب بل في أوروبا بأجمعها، وإذا كتب كتاباً أو نشر مقالة تجاوبت لها أصداء الشرق والغرب وتركت دوياً. نشر الفيلسوف المؤرخ المشار إليه كتاباً أخيراً باسم ”وحدة العالم“ لا يزيد على مئات معدودات من الصفحات طاف فيه على جميع الحوادث الجارية على سطح الكرة الأرضية، ودقق في مصادرها وأسبابها، فذهب إلى أنها مع تناقضها وتصادمها بعضها ببعض سائرة في الحقيقة على نظام ثابت مستقيم، ووصل إلى هذه النتيجة وهي:

أن مشروع الفتح والامتداد الذي يتابعه العالم المتمدن ”أي الأوروبي“ منذ أربعة قرون، والذي بدأ بطيئاً وانقلب سريعاً في آخر الأيام، يظهر للمتأمل أنه آيل إلى ”توحيد العالم الإنساني“ ولم يكن هذا ”التوحيد“ ليتم بدون جهد وبدون بلاء، لأن البشر خلقوا أطواراً، وبينهم من التدابر والتقابل ما يؤذن بالأخذ والرد والعكس والطرد، وهناك أسباب عديدة للحب والبغض والقرب والبعد، مع هذا كله تجد العالم سائراً إلى الوحدة، فإذا نظرنا إلى كيفية النظام السائد الآيل إلى هذه الوحدة وجدنـاهـا: بالإنجيـل، وبالسيف، وبالإفناء، وبتبادل المساعدات، وبتبادل طلقات المدافع ....

ثم يقول: هذه خلاصة نظريات الفيلسوف الإيطالي فريرو، وظاهر أنه يقصد بالإنجيل ”الثقافة الغربيةالتي هي وحدها تمشي في آسيا وأفريقيا وفي يدها الواحدة ”السيف“ وفي الأخرى ”ضماد للجرح“، وهي وحدها تفتنُّ في رق استئصال البشرية، وفي طرق توفير صحة البشر، تجمع في وقت واحد بين الضدين، وهي التي بين يديها الجندي من جهة، والقسيس من جهة أخرى(11).


وبعد هذه الجولة في ماهية العولمة وحدودها لا سيما الثقافية؛ نسأل: هل العولمة أمر حتمي؟ فالجواب: نعم ولا، نعم باعتبار ما وصلنا إليه، ولا باعتبار إمكانية مقاومتها والحد من آثارها السلبية، وهذا ما سنتناوله في الفصل الثالث.


ما هي الهوية: الهوية مأخوذة من ”هُوَ .. هُوَ“ بمعنى أنها جوهر الشيء، وحقيقته، لذا نجد أن الجرجاني في كتابه الذائع الصيت ”التعريفات“ يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب(12).

فهوية الإنسان .. أو الثقافة .. أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء –إنساناً أو ثقافة أو حضارة- الثوابت والمتغيرات .. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة(13).


إن هوية أية أمة هي صفاتها التي تميزها من باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية“(14).


والهوية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى(15).

اللغة هي التي تلي الدين، كعامل مميز لشعب ثقافة ما عن شعب ثقافة أخرى(16).

ثم يأتي التاريخ وعناصر الثقافة المختلفة في صنع الهوية.
وأهم عناصر الهوية الدين حيث في الحروب تذوب الهويات متعددة العناصر، وتصبح الهوية الأكثر معنى بالنسبة للصراع هي السائدة، وغالباً ما تتحدد هذه الهوية دائماً بالدين(17).


وبالنسبة لمن يواجهون احتياجاً لتحديد ”من أنا؟“، ”ولمن أنتمي؟“، يقدم الدين إجابات قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعات صغيرة عوضاً عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين.
والهوية في غاية الأهمية ومنها تنطلق المصالح حيث الناس لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم، فسياسة المصالح تفترض وجود الهوية.
وإذا كانت هذه هي الهوية وهذه أهميتها لكل أحد فإن الهوية عند المسلمين أكثر أهمية، والإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته ولغته هو هوية مشتركة لكل مسلم، كما أن اللغة التي نتكلم بها ليست مجرد أداة تعبير ووسيلة تخاطب، وإنما هي: الفكر والذات والعنوان، بل ولها قداسة المقدس، التي أصبحت لسانه بعد أن نزل بها نبأ السماء العظيم، كما أن العقيدة التي نتدين بها ليست مجرد أيديولوجية وإنما هي: العلم الكلي والشامل والمحيط، ووحي السماء، والميزان المستقيم، والحق المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي منظومة القيم التي تمثل مرجعيتنا في السلوك، فهي ليست نسبية ولا مرحلية(18).


وقد أدرك الأعداء ذلك حيث أن الصليبية والشيوعية والصهيونية اليوم ترى أن استعادة المسلمين لهويتهم الإسلامية وانتمائهم القرآني هو أكبر الأخطار، ومن ثم فإن كل قوى التغريب والغزو الثقافي ستطلق في هذا الاتجاه، ويقوم الاستشراق والتنصير بدور كبير(19).


كما أن الغرب أحرص ما يكون على هوياتهم، وعلى ذوبان المسلمين المهاجرين في مجتمعاتهم، بل إن هناك مؤسسات ووزارات خاصة للاندماج وتذويب الهويات.
وأوروبا ترفض تركيا بسبب الهوية ليس إلا، وكما قال الرئيس أوزال في سنة 1992م: سجل تركيا بالنسبة لحقوق الإنسان سبب ملفق لعدم قبول طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، السبب الرئيسي هو أننا مسلمون وهم مسيحيون(20).

فالقوى الأوروبية يظهرون صراحة أنهم لا يريدون دولة إسلامية (تركيا) في الاتحاد الأوروبي، ولا يسعدهم أن تكون دولة إسلامية أخرى (البوسنة) أنها حرب هويات كما يقول هنتجنتون حيث نجد تركيا تعيد تأكيد دورها كحامية للبلقان وتدعم البوسنة، في يوغوسلافيا السابقة، وروسيا تساند الصرب الأرثوذوكسية، وألمانيا تساعد كرواتيا الكاثوليكية، والدول الإسلامية تهرع لمساعدة الحكومة البوسنية، والصرب يحاربون الكروات ومسلمي البوسنة ومسلمي ألبانيا(21).

  • الآثار السلبية للعولمة على الهوية



    انطلاقاً من الفصل الأول من أن العولمة وصف لظواهر متعددة كالتقدم المذهل في وسائل الاتصال والانفتاح المعلوماتي وذهاب الحواجز بين الدول مع سلطة القطب الواحد الذي يسعى للهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية.
    وهذا ما حدا بالبعض إلى أن يسميها الأمركة، وللأسف إن أمريكا لا تهدف إلى تطبيق قيمها فحسب، بل إنها تنطلق من مصالحها الذرائعية المجردة من المبادئ والتي تكيل بمكيالين والتي تشكل خطورة عظيمة على القيم والأخلاق والهويات لا سيما الإسلامية.


    وهذه أمثلة:
    يحرم الشيشان من الإنفصال عن روسيا .. ويجبر أهل تيمور على الانفصال من اندونيسيا بتدخل من استراليا ودعم من الغرب ..
    وكذلك تنفصل تماماً دول البلطيق وجورجيا من روسيا بينما الدول الإسلامية فاستقلاها غير كامل.
    ودية الأفغاني الذين قتلوا في عرس 200 دولار وقد اعترفت أمريكا بالخطأ بينما من قتل في لوكربي 10.000.000 دولار أي 50.000 ضعف.


    العولمة أن تُهاجَم دولة ذات سيادة حتى دون إذن من الأمم المتحدة لشبهة أسلحة الدمار الشامل، وتُترَك دولة قريبة منها تمتلك أسلحة دمار شامل وتحتل أرض غيرها مخالفة لقرارات الأمم المتحدة ..
    أمريكا تمارس دوراً منفرداً حيث تدعم إسرائيل، وترفع الفيتو بعد الآخر لتتمكن من العدوان، وتعتدي على العراق بحجج واهية وحتى دون موافقة مجلس الأمن التي لها أكبر نفوذ فيه، وتأخذ المعتقلين من أفغانستان إلى قوانتنامو دون محاكمة عادلة، وتحارب الجمعيات الإسلامية وترهبها وتجمد أموال من تريد منها دون أدلة ..
    المنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال ارهابية، والمحتل مدافع عن نفسه، والجماعات الإسلامية في أفغانستان المقاومة للاحتلال الأمريكي وحكومته ارهابية، بينما نفس الوضع كان إبان الاحتلال السوفيتي ولكن تلك الجماعات كانت مقاومة مشروعة مدعومة، مما يعني وجود اختلال حاد في موازين العالم تحت إمرة الحضارة الغربية الصليبية الصهيونية.
    وهذا صمويل هنتجنتون في صدام الحضارات والذي يدعو للتعصب للحضارة الغربية ومحاربة ما عداها لا سيما الإسلامي، وهو في كتابه مرة بعد مرة يمارس تحريضاً على الإسلام وتخويف الأوروبيين منه، للإنضواء تحت أمريكا والغرب وإشعال فتيل التعصب الديني.
    وهذا ما حدا بتوم فريدمان للقول: نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق(22).


    وفي آخر سنة 2003م كانت استطلاعات الرأي في أوروبا أن أمريكا ثم إسرائيل تمثل أكبر خطورة على السلام العالمي.
    فالعولمة هجمة صهيونية شرسة لا تتقيد بالمبادئ، وفي أحسن أحوالها أمركة وتغريب ما لم نقم بدور فعال لتخفيف آثارها والتأثير فيها، وهي حتى لكثير من الغربيين ليست خير للعالم حتى في الجانب الاقتصادي الذي يبشر به البعض، حيث نجد أن هانس بيتر مارتين في كتابه الشهير (فخ العولمة) والذي ركز على العولمة الاقتصادية، يؤكد أن العولمة فخ كبير مليء بالأكاذيب وهي في النهاية تزيد الفقراء، ونجد في الفصل الخامس من الكتاب على سبيل المثال عنوان (أكاذيب ترضي الضمير: أسطورة الميزة على استقطاب الاستثمارات وخرافة العولمة العادلة) (23) كما أن الشعوب حتى الغربية تخرج في مظاهرات شعبية عارمة معارضة لكل مؤتمرات العولمة لما يرونه من إضرار بهم.


    ونجد أن الغرب لا يسعى لنشر قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمر نيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث .. إلخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(24) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
    وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، مراهقين ومراهقات، قادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء، حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م. أي أنه أكثر من مباح، فالسعي لتحقيقه بجميع البلدان في أسرع وقت ممكن، وقبل سنة 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(25).


    بل ونجد ممارسات منفردة، حيث نجد أن أمريكا تضغط تارة باسم حقوق الإنسان (والتي أهدرته في أبو غريب وجوانتامو ومذابح أفغانستان وقصف الفلوجة) وتارة باسم الديمقراطية والحرية لتمرير ما تريد على دول العالم التي لا توافقها.
    بينما الحرية والديمقراطية الغربية والقانون الدستوري جعل الغرب يسقط نتائج الانتخابات في تركيا والجزائر ونيجيريا (مشهود أبيولا) لأن الناجحين إسلاميين!!
    للأسف أن الغرب حريص على فرض قيمه الاجتماعية والثقافية وعولمتها والتي تمثل أسوأ ما عنده بينما لا يسعى إلى عولمة العلم والتقدم حيث يجب الاحتفاظ به.
    إن مما يزيد خطورة العولمة ضعف العالم الإسلامي وهزيمته أمام الغرب وهذا ما يزيد اختراق العولمة الثقافية للهوية، كما قال ابن خلدون ”المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه وسائر أحواله وعوائده“(26).


    فضلاً أن العولمة تحمل فكرة استبداد القوي الذي يسخر إرادات الشعوب الضعيفة لصالحه، وتكمن في فكرة سيطرة المهيمن على الاقتصاد العالمي والقوة العسكرية والإدارة السياسية على شعوب العالم الفقيرة، بل والسعي لإفقار ما ليست فقيرة، وتكمن كذلك في فكرة الإذابة التي يقوى عليها من يمتلك أدوات الاتصال والتحكم بها، وبالمعلومات وبإنتاجها، وتدفقها دونما مراعاة لثقافات الشعوب وحاجاتها وخصوصياتها وإمكاناتها(27).

كما أن مما يزيد خطورة العولمة ذراعها الإعلامي الخاضع للسيطرة الصهيونية والتي تمسك بخيوطها، تسير هذه القوة في السيطرة مع القوة الغاشمة العسكرية في فرض العولمة على الآخرين، فوظيفة المنظومة الإعلامية هي أن تتسلى وتتلهى وتعلم وترسخ القيم والمفاهيم والمعتقدات وأنماط السلوك الأمريكي على الآخرين، كما يرى أحد الخبراء الأمريكين، ولتحقيق ذلك صارت ميزانية الإعلام موازية تماماً لميزانية الدفاع في بعض الدول، فإحصاءات عام 1986م تقول إنه بلغ رقم اقتصاد الإعلام في الغرب والاتصالات مبلغ (1175) بليون دولار تقريباً منها (505) بلايين للولايات المتحـدة الأمريكيــة، و (267) بليونــاً للجماعة الأوروبية، و (253) بليونــاً لليابــــان، و (150) بليوناً فقط للآخرين في العالم .. هذه الميزانيات الضخمة للإعلام في الشمال جعلته يتحكم بقوة في الإعلام المتدفق، في اتجاه الجنوب الأمر الذي أحدث خللاً في المنظومة الإعلامية، وقد فشلت جميع الجهود والمبادرات التي بذلت في إطار الأمم المتحدة لوضع أسس لقيام نظام إعلامي جديد يحقق التوازن بين الشمال والجنوب(28).

وهناك الدراسات الكثيرة التي تبين معاناة شعوب شرقية (ليست إسلامية) وسائرة في الفلك الغربي كاليابان وكوريا الجنوبية من العولمة ومن الدراسات الميدانية التي تمت لمعرفة تأثير المواد التلفزيونية الأمريكية على الشباب الكوري الجنوبي قام بها Kang & Morgan ومن نتائج هذه الدراسة أن هذه المواد أدت إلى تأثير بالغ على القيم التقليدية الكورية، فأصبحت الفتيات الكوريات أكثر تحرراً من القيم الأسرية والأخلاقية، ويعتقدن أنه لا حرج من الممارسة الجنسية خارج الزواج، وأن ذلك من قبيل الحرية الجنسية، وأصبحن يرتدين الملابس الأمريكية، ويحتقرن العقيدة الكونفوشيوسية(29).

كما أننا نجد دولاً كالفلبين وهي دولة تصنف أنها نصرانية سائرة في الفلك الأمريكي حيث نجد في دراسة أجريت على (255) طالباً فلبينياً وجد أن التعرض للمواد التلفزيونية الأمريكية قد ارتبط إيجابياً بتأكيد هؤلاء الطلاب على قيمتي: ”المنفعة والمادية“، باعتبارهما القيمتين الأكثر أهمية في حياتهم، في حين تدنت لديهم قيم فلبينية أصيلة مثل: الصفح، والتسامح، والتضحية، والحكمة(30).

وإذا كانت بعض دول الغرب نفسه أو من هو قريب منها يشكو من عولمة الثقافة على الهوية، حيث نجد أن فرنسا مع أنها غربية نصرانية، ولكن بسبب اختلاف اللغة فإنها أكثر الدول الغربية تشكو من عولمة الثقافة ومن هيمنة اللغة الإنجليزية، والخوف على الهوية الفرنسية ولذلك لجأ الفرنسيون إلى وضع الثقافة في خانة الاستثناء، لأنهم تنبهوا إلى أن قوة الإنتاج الثقافي الأمريكي تؤدي إلى التغيير التدريجي في معايير السلوك وأنماط الحياة(31).



بل أن هناك دراسة في استراليا وهي بلد غربي نصراني يتحدث الإنجليزية أي مشارك للولايات المتحدة في الهوية تقريباً يشكو من مواد التلفزة الأمريكية على الأطفال، لأنها تؤدي إلى فقدان الانتماء وإلى أزمة أخلاقية وغربة ثقافية(32)، وكذلك كندا حيث عبرت وزيرة الثقافة الكندية شيلا كوبي عن انزعاجها من الهيمنة الثقافية الأمريكية، وتداخلها قائلة: من حق الأطفال في كندا أن يستمتعوا بحكايات جداتهم، ومن غير المعقول والمقبول أن تصبح (60%) من برامج التلفزيون الكندي مستوردة، وأن يكون (70%) من موسيقانا أجنبية، وأن يكون (95%) من أخلاقنا ليست أمريكية(33).
وهذه الأمثال توفرها مئات الدراسات في أنحاء العالم من خوف المثقفين على هوية شعوبهم من العولمة الأمريكية، ألا يحق لنا كمسلمين ونحن نحمل أعظم عقيدة وخير لسان نزل به القرآن، وأعظم تاريخ بالإضافة إلى القيم الحضارية العالية أن نخشى على تلك الجواهر من أثر العولمة على الهوية إن أخطر ما تحمله العولمة تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، لما تدعو له من وحدة الأديان، وهي دعوة تنقض عقيدة الإسلام من أساسها، وتهدمها من أصلها،لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية، الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتغيير، ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي. ”كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافياً وفكرياً، فالكون في نظر العولمة الثقافية والفكرية لم يخلق تسخيراً للإنسان، ليكون ميدان امتحان للناس لابتلائهم أيهم أحسن عملاً!!، والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى !! وهذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة“(34).


إن هذا العالم المادي لا يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة(35).


إن المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة، والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماماً لنفس القانون المادي الصارم وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان، وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي، ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة تكتسب وحدتها من كونها جزءاً من النظام الطبيعي، ولذا فإن ثمة نموذجاً واحداً للتطور، ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي تتجه دائماً نحو تصفية الثنائيات التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق / المخلوق) وعن الثنائية الهيومانية (الإنسان / الطبيعة) (36).

وإذا انتقلنا من العقائد التي هي أصل الهوية إلى اللسان واللغة التي هي أداة التفاهم والتواصل، وهي وعاء الفكر وقالبه الحي، وما نراه اليوم من طغيان الثقافة الغربية، حيث تشكل اللغة نسبة عالية من الإسهام في نقلها، ولا أدل على ذلك من أن (88%) من معطيات الأنترنت باللغة الإنجليزية، و(9%) بالألمانية، و(2%) بالفرنسية، و(1%) يوزع على باقي اللغات(37).


ويبين هنتجنتون في كتابه صدام الحضارات أهمية اللغة في الصراع حيث أن توزع اللغات في العالم عبر التاريخ يعكس توزع القوة العالمية فاللغات الأوسع انتشاراً: الإنجليزية، الماندارين، الأسبانية، الفرنسية، العربية، الروسية. إما أنها أو كانت لغات دول إمبراطورية جعلت شعوباً أخرى تستخدم لغتها. كما أن التحولات في توزع القوة، تؤدي إلى تحولات في استخدام اللغات، حيث قرنان من القوة البريطانية والأمريكية الاستعمارية والتجارية والصناعية والعلمية والمالية، تركا ميراثاً ضخماً في التعليم العالي والتجارة والتقنية في أنحاء العالم(38).


أن إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي تشير إلى أن شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ومصر، ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على نصف إجمالي المواد المبثة إذ تبلغ (58.2%)(39). ومعلوم أثر هذه البرامج على العقائد والقيم والأخلاق والعادات واللغة.
أما إذا انتقلنا إلى السلوك والأخلاق فإن المبادئ الأخلاقية التي تتهاوى في الغرب يوماً بعد يوم حيث سيادة المصالح والمنفعة واللذة و تعظيم الإنتاج والاستهلاك.

هذه الحضارة ابتداءً من حربيها العالميتين (أي الغربيتين) وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الإيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته(40).

كما تسوق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة. ”ومن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي، ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم، ومن أحدث محاولات العولمة: محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه Gender بدل كلمة Seمن غيره، وقد أشارت دراسة في السعودية (لناصر الحميدي) إلى أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى، مثل: الترويج للإباحية، والاختلاط، وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية، وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة، وكذلك التأثير على الروابط الأسرية(42).

علماً أن العرب هم أكثر الشعوب مشاهدة للتلفاز(43).

بل حتى في الجانب الاقتصادي فالإنسان الغربي الذي لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من سكان الكرة الأرضية (20%) يستهلك ما يزيد على (80%) من مواردها الطبيعية(44).
x“(41).
والتأثير الأخلاقي هو أسرع

سبل مقاومة الآثار السلبية


مقاومة الآثار السلبية للعولمة على الهوية يأخذ أبعاداً متنوعة:

أولها: تعزيز الهوية بأقوى عناصرها، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدتــه القائمة على توحيــد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عـزة معنويــة عاليــة "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" [المنافقون: من الآية8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان.

ثانيها: العناية باللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.


ثالثها: إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.
"
إن الرد الحقيقي على الطاغوت الحالي الذي يسمى العولمة، هو إبراز النموذج الصحيح الذي يجب أن يكون عليه الإنسان، لكي يصدق الناس –في عالم الواقع- أنه يمكن أن يتقدم الإنسان علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً وحربياً وسياسياً وهو محافظ على إنسانيته، محافظ على نظافته، مترفع عن الدنايا، متطهر من الرجس، قائم بالقسط، معتدل الميزان"(1) "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [الحديد: من الآية25].
إن العولمة يجب أن تكون – من أجل الإنسان- في العلوم والتقنيات والتعامل والتعاون الذي يحترم فيه البشر بعضهم، أما الديانات والثقافات والتقاليد فهي حضارات الشعوب ملك لهم تشكل تنوعاً غير ممل بشرط ألا يتعدى أحد على الآخر.
وأن نعلم أن هويتنا وذاتيتنا بعمقها الديني والحضاري لا بديل لها من أية حضارة أخرى مهما بدا في زينتها. فثقافتنا عالمية، أبدعت وأضافت وأعطت، ورغم خصوصيتها كانت إنسانية شاملة، لا بتراثها الإسلامي –وهو ذروة عطائها- ولكن بما تجاوزته من عناصر الحضارات الأخرى، وبلغتها العربية وفنونها وآدابها. وكما صنعت الأمة ثقافتها، صنعتها ثقافتها، وحافظت على هويتها عبر أداتها التعبيرية لغة القرآن، فلا تكاد تملك لغة من اللغات ما تملكه اللغة العربية من تراث فكري مكتوب، لا في الكم، ولا في النوع، ولا في النسق اللغوي المتماسك(2).


رابعها: العمل على نهوض الأمة في شتى الميادين دينياً وثقافياً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتقنياً، ومحاربة أسباب التخلف والفساد، نغير ما بأنفسنا من تخلف وتقاعس، فإن من سنن الله سبحانه وتعالى التغيير "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: من الآية11]، وقد نبه القرآن الكريم على أهمية العمل "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: من الآية105].


خامسها: مواجهة مساوئ العولمة بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية المرتفعة عند المسلمين.


سادسها: تقليص الخلافات بين المسلمين حكومات وشعوب وجماعات بالاعتصام بكتاب الله عز وجل "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران: من الآية103] ثم التعامل معها إن وجدت بثقافة إيجابية فاعلة ناصحة حتى لا يجد الأعداء ثغرة من خلالها.


سابعها: ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الثقافة، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها. ولكن لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير، وقبول كل فكر، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المنضبطة بضوابط(3).


ثامنها: أن نتعرف على العولمة الثقافية، والكشف على مواطن القوة والضعف فيها، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة، غايتها البحث والدراسة العلمية(4)، وإدراك وفهم التناقضات التي تكتنف فكرة العولمة وكشف الزيف الذي تتستر قواها خلفه(5).
ولكن لابد أن يواكب عملية النقد الكلية للحضارة الغربية، عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته وتوضيح أن كثيراً من القوانين العلمية التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي في واقع الأمر نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة، فإذا كان الغرب قد تحول إلى مطلق، فإنه يجب أن يستعيد نسبيته، وإذا كان يشغل المركز فإنه يجب أن يصبح مرة أخرى عنصراً واحداً ضمن عناصر أخرى تكِّون عالم الإنسان(6).


تاسعها: التنسيق والتعاون بصورة متكاملة في وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي والثقافة والإعلام، و الأوقاف والشئون الإسلامية، والعدل، للمحافظة على الهوية الإسلامية من أي مؤثرات سلبية عليها.


عاشرها: أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلاً عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.


حادي عشر: أن يقوم التعليم بتعزيز الهوية وكشف العولمة ومضارها، ويتحتم على الإعلام التربوي استخدام كافة الوسائل والأساليب والطرق المتاحة كي ينجح في تأصيل القيم والمهارات والمعارف والمعلومات في مؤسسات المجتمع ومنظماته، وبما أن البث المباشر يهدد هويتنا بتنشئة صغارنا على قيم وعادات تخالف فكر أمتهم وثقافتها فإن التربويين والإعلاميين مطالبين بتحصين الأطفال ضد ثقافة الاستهلاك والتغريب، ونحن نريد من الإعلام التربوي أن يتحدث عن المسائل التربوية المهمة واللصيقة بحياة المجتمع، كما نريد منه تقديم مادة غنية ثرية تحدث أثراً إيجابياً، وتترك صدى قوياً بنفس الصغير والتلميذ والطالب والشاب وتساعد على اكتشاف ما يملك من طاقات ومهارات(7).


ثاني عشر: تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى(8). وأن نثري ثقافتنا العربية الإسلامية بما نراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى، وفي الوقت نفسه نعرف تلك الثقافات العالمية بما لنا من تراث وتقاليد وقيم اجتماعية عريقة(9).
وفي دراسة علمية عن العولمة في ضوء العقيدة الإسلامي كان من التوصيات(10):
-
ضرورة الانفتاح على الآخرين والاستفادة من فرص العولمة والتقدم العلمي والتقني، وتطوير ثقافتنا وتحسين أوضاعنا.
-
أن من أهم التحصينات الثقافية لأمتنا قيم الانفتاح والتسامح والعدل والشورى.
-
تطوير مشروع الإسلام الحضاري المتكامل.
-
إعادة بناء الوحدة الإسلامية على أساس شرع الله تعالى.
-
إنشاء السوق الإسلامية المشتركة.
-
إعادة بناء وصياغة النظم التعليمية والتعاون في التعليم.
-
الاهتمام بالإعلام.


ثالث عشر: تشجيع المؤسسات الدعوية داخل البلاد الإسلامية وخارجها على ممارسة عملها ودعمها بكل طريق مادياً ومعنوياً وتوجيهياً، وعدم السقوط في فخ الأعداء بتصيد أخطا\ها وتشويه سمعتها عند حدوث خطأ ما، وإنما بالنصيحة الإيجابية الفاعلة، وما نراه بفضل الله تعالى من مؤسسات إسلامية ودعوية مساعدة للمسلمين للحفاظ على هويتهم لا سيما خارج الدول الإسلامية، سواء كانت مراكز أو مدارس إسلامية أو وسائل إعلامية، كمواقع الإنترنت أو شركات الإنتاج أو إذاعات القرآن الكريم، أو مكاتب دعوة الجاليات التي تتميز بها المملكة العربية السعودية، وأثمرت آلاف المسلمين الجدد كل عام، أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلى غير ذلك من هذه المؤسسات، لتسهم ضد تأثيرات العولمة على الهوية، لذا لا نعجب من أن تكون هذه المؤسسات الخيرية أحد استهدافات العولمة، ومحاولة لرميها بالإرهاب بكل طريق بمحاربة أنشطتها وتشويه سمتعتها وتجفيف مواردها(11).
هذه بعض الأفكار وغيرها كثير في سبيل مواجهة العولمة وهي وإن فرضت علينا واقعاً ليس من اختيارنا، لكنها لا تستطيع منعنا من العمل.
والطريف المضحك المبكي أن يتحدث بعض النفر من مثقفينا عن العولمة، كقضاء وقدر، يجب إسلام الذات الثقافية له، في ذات الوقت الذي يتمردون فيه على القضاء والقدر، إذا كانا من الله، ولقد كتب أحدهم في أحد المؤتمرات التي عقدت عن العولمة يقول: إن العولمة هي ظاهرة التوحد الثقافي والاقتصادي، التي يشهدها العالم اليوم، مع عدم إغفال النواحي السياسية والاجتماعية، وإن الحداثة الغربية عموماً والعولمة المعاصرة خصوصاً، وما أفرزت من ثقافة في طريقها إلى أن تصبح ثقافة عالمية أو كونية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى، فلا شيء قادر على الوقوف في طريقها، ولن تستطيع الثقافات التقليدية أن تصنع شيئاً أمام ثقافة العولمة التي لا تصدها الحدود، أحببنا ذلك أو كرهنا، وافقنا أو رفضنا(12).
وأخيراً مادمنا مقاومين فاعلين قائمين بما أمرنا الله به فإننا موقنين ليس بحماية هويتنا فحسب، بل حتى في التأثير على غيرنا بنفس وسائل العولمة، وهذا هو الفصل القادم.


-        سبل الاستفادة من العولمة في الحفاظ على الهوية



هل العولمة شر محض فنحصر أمورنا في الوقاية منها ومقاومتها؟ أم أنه يمكن التأثير من خلال العولمة، إن موقف نقد لا يعني حرمان النفس من إمكانيات الاستفادة من الفرص التي يتيحها، وذلك للتأثير الإيجابي أو على الأقل التخويف من مخاطر السقوط في الهرم والرثاثة(13).
وإذا كان البعض يشبه العولمة بالقطار إما أن تركب إذا أردت التقدم والوصول أو البقاء في المكان مع التعرض للمخاطر ويفوتك الركب، والقطار يسير إلى قدر محتوم معلوم كما ذكره فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وتأثر به كثير من الكتاب فإن هذا المثال غير صحيح لأن العولمة تتجاذبها قوى متعددة يمكن التأثير فيها.


وسنضرب بعض الأمثلة:


أولاً: إن من مظاهر العولمة وسائل الاتصال من الإنترنت والفضائيات وأن هذه الوسائل من الممكن تسخيرها لخدمة البشرية عبر نشر الحقائق الإسلامية فالأمة العربية والإسلامية تملك أعظم مشروع حضاري .. إنها تملك الوحي الإلهي المعصوم، الذي ينظم العلاقة بين العباد وخالقهم "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذريات:56] ، وبين العباد بعضهم وبعض "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) ، ومع سائر المخلوقات "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" [البقرة:30]، وهو في النهاية يؤدي إلى السعادة الدنيوية والأخروية للعالم، هذه الرسالة العظيمة يجب أن تحملها البشرية وأن تستثمر كل أدوات العولمة المشروعة لإيصال رسالتنا "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" [آل عمران:110].
وثقافتنا وهويتنا قابلة للنمو والاعتناء أكثر من الإذابة والتبعية، لذا نؤمن بالتفاعل والتبادل الذي يتيح لثقافتنا فرصة النمو والانتشار لا الإذابة والتبعية(14).

بل إن الإسلام بعقائده الفطرية وشريعته العادلة القائمة على المساواة هو أكثر المستفيدين من العولمة إذا تساوت الفرص وخدمه أبناؤه فالإسلام بقيمه العالمية بخلاف العولمة التي هي فرض قيم وحضارة خاصة، بينما الإسلام يتجه نحو العالمية منذ نزوله، ويحث على التعايش والسلم، وعايش فعلاً في تاريخه مختلف الديانات وتسامح معها تسامحاً واضحاً بشهادة المؤرخين المنصفين، كما أنه مؤهل بتعاليمه الأخلاقية أن يشارك في وضع أخلاق جديدة لهذه العولمة المنفلتة لحد الآن، وهو يعترف بالقيم المشتركة بين الحضارات، ولا شك أن الدعوة إلى الفهم المتبادل للقيم الحضارية الشرقية والغربية من سمات الإسلام الرئيسية، فقد دعا إلى الحوار مع ديانات أخرى، منذ نزول القرآن، ونادى بالحوار بين الأديان وأزاح الغبار عما طرأ على بعض الديانات من خرافات وتحريفات، ودعا إلى الأصل المشترك بينها جميعاً، " "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران:64]، فعلى المسلم اليوم أن يحدد رسالته نحو العولمة ويبني موقفه على الفهم الصحيح للإسلام، وأن ميزانه ميزان أخلاقي (التقوى) حيث يتحاور ويتعاون مع البشرية في العالم إذا ألغي ميزان العصبية واللون، والطبقة والثروة، وجعل عمارة الكون والإحسان إلى العالمين من مبادئه ومقاصده، وكذلك المشاركة في توفير الخير للناس، وحفظ الحقوق، ومنع الظلم وإن كان مع عدو أو مخالف في الدين، " "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: من الآية8] ، وعد القرآن الكريم اختلاف اللغات والألوان من آياته سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم:22] (15).


فإنتاج البرامج التلفزيونية للتعريف بالإسلام وكذلك المواقع في الإنترنت، ونشر الحقائق الإسلامية وبيان دين الإسلام، والرد على الشبهات المثارة، فتلك الوسائل يستفيد منها بالدرجة الأولى أهل الحق، فهي فرصة لكشف فريق الباطل.
وكذلك الاستفادة من السياحة في منطقتنا الإسلامية لاطلاع القادمين على ديننا وثقافتنا وتاريخنا، وكما أن المؤسسات الخيرية والدعوية الإسلامية التي تعاني الآن من هجمة العولمة واتهامها بدعم الإرهاب لها فرصة الاستفادة من وسائل العولمة لنشر الإسلام.


ثانياً: إن أدوات العولمة ربما ساعدت في الحفاظ على الهوية حيث يتاح للمسلم في الغرب الحفاظ على هويته وتقويتها عبر مواقع الإنترنت الإسلامية بل ويتفاعل معها وكذلك الفضائيات، وقد نشاهد جماعة من المهاجرين الأتراك مثلاً في ألمانيا يقتصرون على مشاهدة البرامج التركية وهم مقيمون في ألمانيا، ينقلون هويتهم معهم، ولا تنقطع الصلة بينهم وبين مجتمعهم الأصلي، وكذلك يفعل المهاجرون المسلمون في فرنسا، والأكراد في ألمانيا.
ثالثاً: العولمة المعاصرة أفرزت تهديداً ثقافياً، وهذا التهديد الثقافي والديني قد يؤدي أيضاً إلى فرار الناس إلى الدين، يلوذون به، ويحتمون بعقائدهم لدرجة التعصب والعنف والقتال، لأنهم يشعرون أنهم مهددون في أعز شيء عندهم، ولشدة خوفهم من الاستئصال والانسلاخ قصراً عن معتقداتهم، لأن الصراع يسهل أن ينشأ عندما يشعر الإنسان أنه مهدد في جانب من ذاتيته(16).

يقول برنارد لويس: "في العالم الإسلامي يوجد ميل متواتر لدى المسلمين في أوقات الأزمة، لأن يبحثوا عن هويتهم الأساسية وانتمائهم في المجتمع الإسلامي"(17).

ويقول هنتجنتون: في عالم اليوم أدى التحسن الذي حدث في مجالات الانتقال والاتصال إلى تفاعلات وعلاقات أكثر تكراراً واتساعاً وتناسقاً وشمولاً بين شعوب من حضارات مختلفة، ونتيجة لذلك أصبحت هوياتهم الحضارية أكثر بروزاً. الفرنسيون والألمان والبلجيك والهولنديون يتزايد تفكيرهم في أنفسهم كأوروبيين، مسلمو الشرق الأوسط يتوحدون ويهرعون لمساعدة البوسنيين والشيشان، الصينيون في آسيا كلها يوحدون مصالحهم مع مصالح البر الرئيسي، الروس يتوحدون مع الصرب والشعوب الأرثوذوكسية الأخرى ويدعمونها، هذه الحدود الأوسع للهوية الحضارية تعني وعياً أعمق بالاختلافات الحضارية والحاجة إلى حماية ما يميز "نحن" عن "هم"(18).

رابعاً: إن من إيجابيات العولمة القضاء على الحداثة بمعناها المعادي لكل ما هو قديم، وذلك هو مأزق الحداثة الفاضح عربياً، وذلك بعد عقود من مساعي الحداثيين إلى علمنة الثقافة والمجتمع، يكتسح الإسلام ساحة الفكر والعمل في غير بلد عربي، وفيما يصر أهل الحداثة على إحداث ثورة في الفكر الديني أو في العقل اللاهوتي، على غرار ثورة لوثر أو فولتير أو كنت، توضع الحداثة غربياً على مشرحة النقد والتفكيك بكل عناوينها ومسلماتها، بعد أن شهدت انفجاراتها المفهومية في أكثر فروع المعرفة والثقافة(19).
-        د

------- وهذا البحث هو لـ :

د. خالد بن عبد الله القاسم

2/5/1427

29/05/2006


























· بحث للدكتور : عبد الخالق عبد الله
· جامعة الإمارات العربية المتحدة قسم العلوم السياسية
· المنشور في مجلة عالم الفكر
· الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – دولة
الكويت العدد 28 عام 1999 م
العولمة : جذورها، وفروعها، وكيفية التعامل معها
بقلم : صالح سليمان العامر

جذور العولمة والتعامل معها:
في القرن الحادي والعشرين أصبح من الواضح أن معظم التحولات الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية المذهلة والمتسارعة التي يشهدها العالم هي إما سبب من أسباب العولمة أوانها مجرد نتيجة من نتائجها الضخمة والعميقة . لقد كانت حركة دمج العالم موجودة باستمرار وعبر كل العصور التاريخية، بيد أن هذه الحركة أخذت تتسارع خلال التسعينيات بشكل خاص مستمدة صورتها من الثورة العلمية والتكنولوجيا الراهنة والتطورات المدهشة في وسائل الاتصالات والمعلومات التي تقود الطريق إلى المستقبل .والعالم – الآن - يعيش لحظة بدايات العولمة ومازال يتعرف على مقدماتها ولكن العالم لا يعرف - على الإطلاق - إلى أين تتجه العولمة وما هي نهاياتها ؟وهناك محاولات فكرية عديدة لفهم طبيعة التحولات والتغيرات في جميع الاتجاهات والمجالات واستيعاب هذا العالم الجديد وفهم سماته الأساسية ومساراته المستقبلية منها على سبيل المثال و أبرزها :
1 -المؤلف "صموئيل هانتغتون" بعنوان صدام الحضارات : الذي أشار فيه إلى أن البشرية - وهي في طريقها نحو عالم جديد - كانت مقبلة على الحرب الدامية بين مناطق الحضارة الكبرى .
2 –المؤلف "فرانسيس فوكوياما" في كتابه "نهاية التاريخ" الذي شخص فيه المرحلة الراهنة من التاريخ وكأنها مرحلة انتصار نهائي للنموذج السياسي والفكري الليبرالي الذي يحظى بالقبول الواسع من أكبر قدر من الدول والمجتمعات في العالم.
3 –"بول كيندي" مؤلف كتاب "صعود وهبوط الامبراطوريات" والذي توقع فيه انهيار الاتحاد السوفيتي، وتنبأ باحتمال تراجع هيمنة الولايات المتحدة على الشأن العالمي في المستقبل إذا ظل الإنفاق العسكري الأمريكي على مستوياته العالية والتي لا تتناسب مع نصيبها من الإنتاج الإجمالي العالمي .
4 –"رونالد روبرتسون" مؤلف كتاب "العولمة" الذي يؤكد على أن العولمة هي تطور نوعي جديد في التاريخ الإنساني بعد أن أصبح العالم أكثر ترابطاً وأكثر تماسكاً والوعي بهذا الارتباط هو من أهم سمات هذه اللحظة .
5 –"جون بسبيت" مؤلف كتاب "ملة العولمة" وتحدث فيه عن القوى التكنولوجية والتكتلات الاقتصادية الجديدة التي ستلعب الدور الحاسم في تشكيل مستقبل البشرية خلال القرن المقبل .
6 –"والفين توفللر" مؤلف الكتب التالية : أ – ( الموجة الثالثة ب - صدمة المستقبل ج - تحولات القوة ) وهو الذي سبق الجميع من حيث التعمق في فهم طبيعة الفصل الجديد في التاريخ وتجديد سماته المميزة عن العصور السابقة . * اللحظة الحضارية الجديدة كغيرها من اللحظات التاريخية السابقة واللاحقة مليئة بالفرص والمخاطر

الاحتمالات وإن فرص العولمة كثيرة ومتنوعة وبالإمكان استغلالها لتحقيق أهداف محلية ووطنية وغايات إنسانية وعالمية مثل: الفرص العلمية المصاحبة للثورة العلمية والتكنولوجية والاتصالية وتقنية المعلومات .
أما مخاطر العولمة التي تحملها في طياتها من سياسية وثقافية واقتصادية والمرتبطة بحركة العالم عن طريق الولايات المتحدة ونتيجة تداخل هذه الفرص مع المخاطر كان من غير الممكن اختزال العولمة وتبسيطها فلا يمكن اختزالها في الفرص والمخاطر أو العكس، ولا يمكن تجاهل إيجابيات العولمة الواضحة كل الوضوح كما لا يمكن استبعاد سلبياتها البارزة كل البروز ولا يمكن التغافل عن المستجدات الحياتية والفكرية المعاصرة والاعتقاد بأن العالم يتغير والاستمرار بالقوالب الحياتية والفكرية السابقة نفسها والتي ربما لا تناسب الفصل الجديد من التاريخ وافتعال المواجهة والمعارك غير الضرورية مع العولمة . والمهم تشخيص العولمة تشخيصًا متوازنًا بكل مالها وما عليها .
ماهي العولمة ؟
يقول "بول هيرست" و"غراهام توميسون" : إن أوهام العولمة هي الأكثر بكثير من حقائقها، و مالا يعرف عنها أكثر بكثير مما يعرف، ومع ذلك فإن العولمة مازالت من أكثر الظواهر الاقتصادية والسياسة والثقافية غموضاً وإثارة للجدل .وبعض الناس اتخذ منها موقفا أيدلوجيًا وعقائدياً مسبقًا قبل أن يفهمها وأخذ يسابق الجميع لمعاداتها والبعض ركز تركيزًا أحاديًا على مخاطرها دون فرصها، وبالغ في تضخيم المخاطر، ويمثل هذا الموقف صاحب كتاب ( فخ العولمة ) والبعض الآخر تعرف على فرصها دون المخاطر، وجعل يبالغ في إفراز محاسنها الاستثمارية والمعرفية، وقام يبشر الجميع بنعيمها الموعود في ظل النظام الرأسمالي الليبرالي وأما البعض الآخر فإنه أساء كل الإساءة في فهم العولمة واعتقد واهمًا أن العالم قد تم عولمته عولمة كاملة وهو الأمر الذي لم يتم بعد .
وهناك قطاعات أخرى من المثقفين والعمال والجماعات الدينية تنظر إلى العولمة نظرة شك، وتعبر عن رفضها لها كل الرفض، وكل هذه التصورات والأحاسيس والمواقف تعبر عن سعة انتشار العولمة .
· ولمعرفة حقيقتها لابد من :
أولاً : معرفة أن العولمة ليست شعاراً من الشعارات السياسية أو
الفكرية الجديدة التي تبرز ثم سرعان ما تختفي بعد أن تؤدي غايتها
.
ثانياً : العولمة ليست موضة فكرية عابرة لا جذور لها في الواقع أو بدعة أنتجتها عقول المفكرين والمنظرين لإلهاء الشعوب .ثالثاً : العولمة ليست كلمة سحرية تفتح أبواب الثروة والمعرفة للشعوب المحتاجة وتفتح أبواب الحاضر والمستقبل التي مازالت موصدة أمام الكثير من المجتمعات في كل أنحاء العالم .رابعاً : إن العولمة ليست بالمسار المحتوم الذي يحدد مصير البشرية في جميع الاتجاهات المفرحة أو المحزنة .خامساً : العولمة لا تعد بعالم أكثر أمناً واستقرارا وعدالة وديمقراطية، فالعولمة لا تسعى بالضرورة إلى خلق عالم أكثر إنصافًا للمجتمعات والتي لا تشعر- حاليا-ً بالإنصاف فليس ذلك من اختصاصها؛ فإن سلبيات العالم الكثيرة من جميع النواحي موجودة قبل مجيء العولمة وربما تستمر حتى بعدها، فليست العولمة معجزة القرن القادم .
سادسا : إن العولمة لا تعني اجتماع العالم على منهج اقتصادي واحد مهما بلغ التأكيد على صلاحيته العالمية أو الاجتماع تحت لواء مذهب سياسي واحد مهما اتضحت فوائد

هذا المذهب، أو اتباع نموذج ثقافي واحد مهما بدا هذا النموذج جذاباً ومغريًا وناجحًا؛ لأن العولمة لا تضمن اختفاء التنوع الحضاري أو القضاء على التعدد الثقافي أو نزع الذاتية الحضارية أو إلغاء الاختلافات بين الشعوب والمجتمعات والحضارات بل إن العالم سوف يزداد تنوعا في جميع الجوانب الثقافية الحضارية .
سابعا : العولمة ليست حركة استعمارية أو إمبريالية جديدة لأن ذلك موجود قبلها .
ثامنا : وأخيرًا ، العولمة ليست أمركة فإن ذلك أسوأ ما في العولمة، وهو الهدف الذي يسعى إليه الأمريكان ومع ذلك فلم تتمكن أمريكا من ذلك . إذاً المطلوب قبل حقيقة العولمة هو تحرير العولمة من الأوهام والمبالغات والتصورات المغلوطة وسوف نقترب بعدها إلى حقيقة العولمة.
حقيقة العولمة :
عدم وضوح حقيقة العولمة هو سبب تلك الأوهام السابقة وينبغي أن يعلم أن تعريف العولمة هو أمر شائك وتوجد صعوبات أمام الاتفاق على تعريف واحد.
ومن الطبيعي أن يتفاوت فهم الأفراد للعولمة ومضامينها المختلفة ولذلك فأن من الضروري التمييز بين العولمة الاقتصادية و العولمة الثقافية والعولمة السياسية والعولمة العلمية، والعولمة الاجتماعية إذ لا توجد عولمة واحدة . هذه أولى الحقائق المهمة .والحقيقة الثانية : إن مفهوم العولمة لم يكن موجودًا من قبل بل إن قاموس أكسفورد للكلمات الإنجليزية الجديدة أشار لمفهوم العولمة للمرة الأولى عام 1991 م وبأنه من المفاهيم الجديدة التي برزت خلال التسعينيات وهو اليوم من أكثر المصطلحات تداولا في الشرق والغرب ولقد تعددت معاني مفهوم العولمة وكثرت استخداماته وأصبح من الصعب حصر جميع استعمالاته المتفاوتة .ثالث الحقائق : إن الحديث عن العولمة تزامن مع بروز مجموعة من الظواهر الحياتية والمستجدات الفكرية والتطورات التكنولوجية والعلمية والتي تدفع في اتجاه زيادة ترابط العالم وزيادة تقاربه وانكماشه .
والأمر الذي يعني إلغاء الحدود والفواصل الراهنة القائمة بين الأفراد و المجتمعات والثقافات والدول وزامن ذلك زيادة الوعي بتكوين مجتمع أو عالم بلا حدود .
التعريفات :
أولاً أقدم التعاريف : تعريف "رونالد روبرتسون" الذي يؤكد على أن العولمة هي اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد و المجتمعات بهذا الانكماشولهذا التعريف شقان مهمان:
1 -تركيزه الشديد على فكرة انكماش العالم وتتضمن أموراً كثيرة، كتقارب المسافات والثقافات وترابط المجتمعات والدول.
2 -الوعي بهذا الانكماش وهذا ما حدث فعلاً ثانيا أنتوني جيدنز : عرف العولمة بأنها: مرحلة جديدة من مراحل وتطور الحداثة تتكاثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العلمي وحدوث تلاحم بين الداخل والخارج و الربط بين المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وثقافية وسياسية وإنسانية، ولا يعني هذا إلغاء المحلي والداخلي ولكن أن يصبح العالم الخارجي له حضور نفس العالم الداخلي في تأثيره على سلوكيات وقناعات وأفكار الأفراد ، والنتيجة هي بروز وتقوية العامل الداخلي. فمن الخطأ الاعتقاد بأن العولمة هي إلغاء للمحلي .ثالثاً " مالكون و أنزز" في كتابه ( العولمة ) عرّفها بأنها: كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو من دون قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد .
ونأخذ من كل هذه التعاريف :

إن العولمة تتضمن بروز عالم بلا حدود: جغرافية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو سياسية وأن هناك عولمات كثيرة، أما العولمة الكاملة فإنها لم ولن تحدث إلى الآن، لأنها تحتاج إلى ثقافة عالمية واحدة وقيام حكومة موحدة . * من القضايا المهمة سؤال :
هل للعولمة علاقة بالحداثة ؟ وهل هي امتداد لها ؟ و متى ولدت
وبرزت العولمة ؟ وهل هي مولودة أو بارزة فعلا ؟ فيقول البعض : إن العولمة حقيقة حياتية جديدة ولم تبرز خلال عقد التسعينيات ويقول آخرون : إن العولمة قديمة وموجودة ، فمثلاً : الديانات مثل الإسلام لها نظرة شاملة بلا حدود بين الشعوب والقبائل وهذا من أهم مضامين العولمة .
· اقترح " رونالد روبرتسون" جدولا يؤرخ لولادة العولمة يتضمن خمس مراحل :
1 -بداية القرن الخامس متزامنة مع التوسع الكنسي وبروز مجموعة من النظريات التي تتحدث عن وحدة العالم البشرية .
2 -في منتصف القرن الثامن عشر انتعش مفهوم العلاقات الدولية والذي يركز على الأبعاد القانونية .
3 -مرحلة الانطلاق من القرن التاسع عشر وحتى العقد الثاني من القرن العشرين وفيها برزت اتجاهات كونية واضحة تركز على المجتمع العالمي الواحد واندلعت فيها الحروب العالمية الأولى .
4 -إلى بداية التسعينيات وفيها برزت ( الأمم المتحدة ) وتفاقم الصراع من أجل الهيمنة العالمية و الكونية والدخول إلى القمر وتطوير شبكة المواصلات والاتصالات والاهتمام بحقوق الإنسان وحريته .
5 -من بداية السبعينيات إلى بداية التسعينيات تميزت بإدراك الأفراد بعالمية العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز المؤسسات الحكومية وغير الحكومية لإدارة القضايا العالمية المعاصرة .
· إذاً عالم العولمة يختلف عن عالم الحداثة الذي أصبحت فيه حركة الأفراد و السلع والمعلومات و رأس المال أسرع وأسهل من أي وقت آخر وقد تقلصت فيه المسافات وأصبح عالما بلا حدود بخلاف الحداثة القائمة على الحدود الجغرافية .
· أسئلة مهمة :
ما هي القوى التي أدت إلى حدوث هذا التداخل بين العالمي
والمحلي ؟ وما هي العوامل التي تعمل على إلغاء الحدود بين الداخل والخارج ؟ وما هي التطورات التي جعلت من عالم التسعينيات عالماً بلا حدود ؟ وماهي المستجدات التي ساهمت في تقليص المسافات واختزال الزمان والمكان وانكماش العالم وزيادة الوعي بعالمية العالم ؟ أسئلة مهمة لابد من الإجابة عنها :
قوى العولمة :
الثروة العلمية والمعلوماتية والاتصالية الجديدة التي اكتسحت العالم منذ بداية التسعينيات وهي القوة الأساسية، ولكنها ليست الوحيدة، والذي يملك هذه القوة و الثروة هو الذي يملك مصير العالم ويعرف كيف يدير شؤونه ويتمكن من التأثير في الآخرين بما في ذلك القدرة على إدارة شؤون العالم سياسيًا واقتصاديًا .وهذه الحركة تكون بسرعة بمعدل اختراع أو اكتشاف جديد في كل دقيقتين من دقائق الساعة الواحدة على مدار السنة ومن دون توقف .ولها مراحل وتحولات سبق الحديث عنها أثناء الحديث عن حرب المعلومات أو الثروة المعلوماتية .
· العولمة الاقتصادية :


العولمة أساساً هي مفهوم اقتصادي قبل أن تكون مفهوماً علمياً و سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعيا،ً وأيضا مظاهر وكليات العولمة الاقتصادية هي الأكثر تكاملا وتحققًا على أرض الواقع من العولمات الأخرى .
وتعنى العولمة الاقتصادية أن الأسواق التجارية والمالية والعالمية أصبحت موحدة وخارجة عن نطاق كل دول العالم وتنتقل السلع والخدمات ورأس المال على النظام العالمي بلا حدود . ونعني انتقال الثقل الاقتصادي العالمي من الوطني إلى العالمي و من الدولة إلى الشركات والمؤسسات و التكتلات الاقتصادية مما أدى إلى بروز منظمة التجارة العالمية و الشركات ذات النشاط .
العولمة الاقتصادية هي الرأسمالية :
من وجه آخر يمكن أن يقال إن هدف العولمة الاقتصادية هو تحويل العالم إلى عالم مهتم بالاقتصاد أكثر من اهتمامه بأي أمر آخر في حياته بما في ذلك الأخلاق والقيم الإنسانية التي تتراجع تدريجياً وتستبدل بالعلاقات السليمة و الزكية والنقية .
وقد تركزت الشركات في ثلاث مناطق اقتصادية رئيسة هي :
1 -اليورو ( الوحدة النقدية الجديدة لدول الوحدة والسوق الأوروبية المشتركة )
2 -منطقة التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية والمعروفة بالنافتا ( تضم الولايات المتحدة كندا المكسيك ) .
3 -محيط ( الين ) ويضم اليابان والصين ودول جنوب شرق آسيا .
هذه الشركات هي وقود العولمة الاقتصادية وتحمل معها كل الفرص
والمخاطر المصاحبة للعولمة
· منظمة الجات :
تم توقيع منظمة الجات وقيام منظمة التجارة العالمية عام 1996 م وضمت هذه المنظمة في عضويتها أكثر من مائة وأربعين (140) دولة بالإضافة إلى ثلاثين (30) دولة في طريقها للانضمام .وهذه المنظمة هي اليوم أهم مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية ويعتبر إنشاؤها منعطفا في التاريخ الاقتصادي العالمي .
· العولمة الثقافية :
العولمة الثقافية ليست واضحة بعكس العولمة الاقتصادية وليست مكتملة أيضا وإمكانية استبعاد قيام عولمة ثقافية ممكن.وهي تعتبر ظاهرة جديدة عكس الاقتصادية والتي تعتبر محصلة لتاريخ طويل من التطورات الاقتصادية والتجارية والمالية .
والمؤلف ذكر التخوف من الناس حول العولمة الثقافية ثم قال :
فإن الثقافة وعناصرها: كالفكر، والأدب، والفن ومن ثم الحياة الثقافية عمومًا تظهر ميلاً واستعداداً واضحاً للعولمة و لو تركت الثقافة لطبيعتها .
ولبروز العولمة الثقافية مقدمات وتطورات من أهمها :
· الانفتاح الثقافي العالمي إذ يتميز هذا العصر بالانفتاح .
وهذا الأمر سيسمح ببروز مفاهيم وقيم وقناعات ومواقف وسلوكيات إنسانية مشتركة وعابرة لكل المناطق الحضارية والثقافية والهدف النهائي للعولمة الثقافية هو ليس خلق ثقافة عالمية واحدة بل خلق عالم بلا حدود ثقافية وهذا لم يتحقق ولا يتوقع له أن يتحقق قريباً .


ومن ناحية أخرى : تتضمن العولمة الثقافية بلوغ البشرية مرحلة
الحرية الكاملة لانتقال الأفكار و المعلومات والبيانات والاتجاهات والقيم والأذواق على الصعيد العالمي .ولقد أصبح ملايين من البشر موحدين تلفزيونيًا وتلفونيًا ومن خلال البريد الإلكتروني وشبكات الإنترنت فلم يحدث في التاريخ أن تمكن أكثر من ثلاثة مليارات فرد حوالي 50 % من عدد سكان الأرض أن يتابعوا معا بالصوت والصورة الحية وفي وقت واحد حدثًا عالميًا كمباريات كأس العالم أو توقيع اتفاقية للسَّلام في العاصمة الأمريكية أو مراسم دفن الأميرة ديانا .
سماع ومعرفة عدد هائل من سكان الأرض عما يجري في باقي أنحاء
العالم كما هو الأمر اليوم الذي تم حاليًا من خلال حوالي ألف (1000) قمر صناعي سيزداد قريبًا إلى ألفي (2000) قمر صناعي تقوم بربط العالم ونقل الأخبار و الأحداث والأفكار والمعلومات والقيم إلى كل أرجاء المعمورة .
السياحة أصبحت حركة السياحة أسرع وأرخص من أي وقت من الأوقات
ولم تعد حكرًا على طبقة معينة فأسقطت السياحة الحدود وقربت الأماكن البعيدة.
والنتيجة هي : بروز اهتمامات وعادات وأذواق وآمال وأهداف وربما لمعطيات مشتركة لا تعبر عن ثقافة محدودة بل عن ثقافات متنوعة .
بعد أن تمكنت الثقافة الاستهلاكية من توصير شباب العالم كما لم
تتمكن أية قوة أو مؤسسة أخرى من توصيرهم في التاريخ فالشباب الذي أخذ يبرز كقوة شرائية مهمة وصاعدة بالأكل من الوجبات السريعة نفسها كالهامبرجر والبيتزا ودجاج الكنتاكي وماكدونالدز و البيبسي والكاكولا .والأغاني الشبابية الراقصة والملابس العالمية و الأفلام المثيرة هكذا حققت الثقافة الاستهلاكية انتصارًا كبيراً خلال هذا العقد وهذا يؤرق المجتمعات، ويقلق الدول التي فقدت السيطرة على الوضع الاقتصادي، وهاهي – الآن - تفقد السيطرة على الوضع الثقافي .
· العولمة السياسية :
السياسة دائماً محصورة ضمن النطاق المحلي ومعزولة عن التطورات والتأثيرات الخارجية، لأن ذلك من أبرز اختصاصات الدولة القومية ومرتبط جداً بمفهوم السيادة ،وممارسة صلاحيتها وسلطاتها على أرضها و شعبها وبرز هذا منذ حوالي ثلاثمائة ( 300) سنة .وهذا الوضع مضاد للعولمة وسوف يعمل على مقاومة العولمة ومع ذلك كأن بروز عالم بلا حدود اقتصادية قد قطع شوطا مهما في الإنجاز على أرض الواقع. ومثله عالماً بلا حدود ثقافياً وكلها ستخلق عالم بلا حدود سياسياً وهو جوهر العولمة السياسية وإن كانت سرعة العولمة السياسية أبطأ سرعة من الثقافية والاقتصادية .ونهاية السيادة والدولة وبروز الحكومة العالمية ممكنة أكثر من أي وقت آخر في ظل العولمة ولكنه لن يحدث بصيغة قريبة، والعولمة السياسية لا تعني بالضرورة القضاء على الدولة إنما تعني دخول البشرية إلى مرحلة سياسية جديدة يتم خلالها الانتقال الحر للقرارات والتشريعات والسياسات والقناعات والخيارات عبر المجتمعات والقارات وبأقل قدر من القيود و الضوابط متجاوزة بذلك الدول والحدود الجغرافية .


والعولمة السياسية تتضمن حدوث زيادة غير مسبوقة في الروابط السياسية بين دول العالم مثل : الثقافية والاقتصادية .
ومن المؤشرات :
1 -إن القرارات التي تتخذ في عاصمة من العواصم العالمية سرعان ما تنتشر انتشارًا سريعًا إلى كل العواصم و الاهتمامات بها مترابطة ومتبادلة بكل الدول والعواصم .
2 –المؤسسات المالية والتجارية والاقتصادية العالمية وفي مقدمتها منظمة التجارة العالمية التي تأسست عام 1996 م لتشرف إشرافاً كاملاً على النشاط التجاري العالمي .
3 –الشركات العابرة للقارات والتي تسمى متعددة أو متعدية الجنسيات .
4 –بروز المنظمات الأهلية غير الحكومية على الساحة السياسية العالمية في الآونة الأخيرة كقوة فاعلة ومؤثرة كمؤتمر قمة الأرض، ومؤتمر قمة المرأة في بكين، ومؤتمر السكان في القاهرة ، وحقوق الإنسان في فيينا وغيرها كثير . ويقول المؤلف : أن الهدف العام الذي تسعى المنظمات غير الحكومية إلى تحقيقه هو خلق المجتمع المدني العالمي الذي يراقب نشاطات وسياسات الدول في مجالات حقوق الإنسان والبيئة والقضايا الاجتماعية والإنسانية .
5 –بروز مشاكل وقضايا عالمية جديدة تتطلب استجابات دولية وجماعية وليست استجابات فردية مثل : التلوث البيئي ، والمشاكل البيئية كالنفايات النووية والسامة وغيرها كثير .
6 –الاهتمام الكبير المتزايد بقضية حقوق الإنسان من قبل كثير من الشعوب بسبب عمليات القمع للحريات والاضطهاد والظلم التي يتعرضون لها .
· التعامل مع العولمة :
إن العولمة هي لحظة تاريخية فاصلة وشبيهة في بداياتها وتداعياتها النهائية بحركة الحداثة التي برزت قبل حوالي ثلثمائة 300 سنة وانتشرت في أوروبا.
وانكماش العالم أصبح ممكناً بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة وقد سبق أن العولمة في بعدها الاقتصادي أسرع وأكثر وجوداً من العولمات الأخرى ، العولمة ، لها اتجاهات إيجابية والتي منها الآفاق المعرفية المرتبطة في الثورة العلمية والمعلوماتية والتدفق الحر للسلع والخدمات عبر الاتصالات المفتوحة والتي يمكن الاستفادة منها، وكذلك الاهتمام الكبير في القضايا البيئية وحقوق الإنسان وقضايا الانفجار السكاني وتزايد الفقر في العالم وإيجاد الحلول للاختلالات الاجتماعية وانتهاء صراع الشرق والغرب واختفاء التوتر النووي بين الدول العظمى. فإذا كانت العولمة هي تجسيد لمثل هذه الإيجابيات فإنها ستجد الترحيب من قبل الدول والجماعات أما بالنسبة للاحتمالات المقلقة مثل : المزيد من التطورات في الهندسة الوراثية، وهندسة الجينات، وتوظيف ذلك توظيفاً تجارياً وعنصرياً وعسكريا فإنه يستفز القيم الإنسانية العميقة .
وكذلك توظيف الشركات الاحتكارية لقدراتها المالية والتنظيمية من أجل استغلال ثروات الشعوب وكذلك تكون مقلقة إذا كانت تتضمّن هيمنةً ثقافية واحدة وإذا كانت تتضمن احتمال صدام الحضارات، وصدام المناطق الحضارية ودخولها في حروب دامية عنيفة .أو كانت تعني الأمركة للعالم واستفراد الولايات المتحدة بالشأن العالمي . باختصار العولمة تتضمن الكثير من الفرص والمخاطر المتداخلة وهذا التداخل أدى إلى تفاوت المشاعر والأحاسيس والمواقف تجاه العولمة على ثلاثة مواقف: